فصل: تفسير الآيات (1- 8):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (54- 60):

{إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54) لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55) إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60)}
{إِن تُبْدُواْ شَيْئاً} من إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم أو من نكاحهن {أَوْ تُخْفُوهْ} في أنفسكم من ذلكم {فَإِنَّ الله كَانَ بِكُلّ شَئ عَلِيماً} فيعاقبكم به.
ولما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب: يا رسول الله أو نحن أيضاً نكلمهن من وراء حجاب فنزل {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ في ءَابَآئِهِنَّ وَلاَ أَبْنَائِهِنَّ وَلاَ إخوانهن وَلاَ أَبْنَاء إخوانهن وَلاَ أَبْنَاء أخواتهن وَلاَ نِسَائِهِنَّ وَلاَ} أي نساء المؤمنات {وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} أي لا إثم عليهن في ألا يحتجبن من هؤلاء ولم يذكر العم والخال لأنهما يجريان مجرى الوالدين وقد جاءت تسمية العم أبا قال الله تعالى: {وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق} [البقرة: 133]. وإسماعيل عم يعقوب، وعبيدهن عند الجمهور كالأجانب. ثم نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب وفي هذا النقل فضل تشديد كأنه قيل {واتقين الله} فيما أمرتن به من الاحتجاب وأنزل فيه الوحي من الاستتار واحتطن فيه {إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شَئ شَهِيداً} عالماً. قال ابن عطاء: الشهيد الذي يعلم خطرات القلوب كما يعلم حركات الجوارح. {إِنَّ الله وملائكته يُصَلُّونَ عَلَى النبى ياأيها الذين ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ} أي قولوا اللهم صل على محمد أو صلى الله على محمد {وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً} أي قولوا اللهم سلم على محمد أو انقادوا لأمره وحكمه انقياداً. وسئل عليه السلام عن هذه الآية فقال: «إن الله وكل بي ملكين فلا أذكر عند عبد مسلم فيصلي عليّ إلا قال ذانك الملكان غفر الله لك وقال الله وملائكته جواباً لذينك الملكين آمين، ولا أذكر عند عبد مسلم فلا يصلي عليّ إلا قال ذانك الملكان غفر الله لك وقال الله وملائكته جواباً لذينك الملكين آمين» ثم هي واجبة مرة عند الطحاوي، وكلما ذكر اسمه عند الكرخي وهو الاحتياط وعليه الجمهور. وإن صلى على غيره على سبيل التبع كقوله (صلى الله على النبي وآله) فلا كلام فيه، وأما إذا أفرد غيره من أهل البيت بالصلاة فمكروه وهو من شعائر الروافض.
{إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ} أي يؤذون رسول الله، وذكر اسم الله للتشريف أو عبر بإيذاء الله ورسوله عن فعل ما لا يرضى به الله ورسوله كالكفر وإنكار النبوة مجازاً، وإنما جعل مجازاً فيهما وحقيقة الإيذاء يتصور في رسول الله لئلا يجتمع المجاز والحقيقة في لفظ واحد {لَعَنَهُمُ الله في الدنيا والآخرة} طردهم الله عن رحمته في الدارين {وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً} في الآخرة {والذين يُؤْذُونَ المؤمنين والمؤمنات بِغَيْرِ مَا اكتسبوا} أطلق إيذاء الله ورسوله وقيد إيذاء المؤمنين والمؤمنات لأن ذاك يكون غير حق أبداً، وأما هذا فمنه حق كالحد والتعزيز ومنه باطل.
قيل: نزلت في ناس من المنافقين يؤذون علياً رضي الله عنه ويسمونه. وقيل: في زناة كانوا يتبعون النساء وهن كارهات. وعن الفضيل: لا يحل لك أن تؤذي كلباً أو خنزيراً بغير حق فكيف إيذاء المؤمنين والمؤمنات {فَقَدِ احتملوا} تحملوا {بهتانا} كذباً عظيماً {وَإِثْماً مُّبِيناً} ظاهراً.
{ياأيها النبى قُل لأزواجك وبناتك وَنِسَاء المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن} الجلباب: ما يستر الكل مثل الملحفة عن المبرد. ومعنى {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن} يرخينها عليهن ويغطين بها وجوههن وأعطافهن. يقال: إذا زلّ الثوب عن وجه المرأة أدنى ثوبك على وجهك. و{من} للتبعيض أي ترخي بعض جلبابها وفضله على وجهها تتقنع حتى تتميز من الأمة، أو المراد أن تتجلببن ببعض ما لهن من الجلابيب وأن لا تكون المرأة متبذلة في درع وخمار كالأمة ولها جلبابان فصاعداً في بيتها، وذلك أن النساء كنّ في أول الإسلام على هجّيراهن في الجاهلية متبذلات تبرز المرأة في درع وخمار لا فضل بين الحرة والأمة، وكان الفتيان يتعرضون إذا خرجن بالليل لقضاء حوائجهن في النخيل والغيطان للإماء، وربما تعرضوا للحرة لحسبان الأمة فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء بلبس الملاحف وستر الرؤوس والوجوه فلا يطمع فيهن طامع وذلك قوله {ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ} أي أولى وأجدر بأن يعرفن فلا يتعرض لهن {وَكَانَ الله غَفُوراً} لما سلف منهن من التفريط {رَّحِيماً} بتعليمهن آداب المكارم {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون والذين في قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} فجور، وهم الزناة من قوله {فَيَطْمَعَ الذي في قَلْبِهِ مَرَضٌ} {والمرجفون في المدينة} هم أناس كانوا يرجفون بأخبار السوء عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون هزموا وقتلوا وجرى عليهم كيت وكيت فيكسرون بذلك قلوب المؤمنين. يقال: أرجف بكذا إذا أخبر به على غير حقيقة لكونه خبراً متزلزلاً غير ثابت من الرجفة وهي الزلزلة {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} لنأمرنك بقتالهم أو لنسلطنك عليهم {ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا} في المدينة وهو عطف على {لَنُغْرِيَنَّكَ} لأنه يجوز أن يجاب به القسم لصحة قولك لئن لم ينتهوا لا يجاورونك. ولما كان الجلاء عن الوطن أعظم من جميع ما أصيبوا به عطف ب {ثُمَّ} لبعد حاله عن حال المعطوف عليه {إِلاَّ قَلِيلاً} زماناً قليلاً. والمعنى لئن لم ينته المنافقون عن عداوتهم وكيدهم، والفسقة عن فجورهم، والمرجفون عما يؤلفون من أخبار السوء، لنأمرنك بأن تفعل الأفعال التي تسوءهم، ثم بأن تضطرهم إلى طلب الجلاء عن المدينة وإلى أن لا يساكنوك فيها إلا زماناً قليلاً ريثما يرتحلون، فسمي ذلك إغراء وهو التحريش على سبيل المجاز.

.تفسير الآيات (61- 73):

{مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)}
{مَّلْعُونِينَ} نصب على الشتم أو الحال أي لا يجاورنك إلا ملعونين، فالاستثناء دخل على الظرف والحال معاً كما مر ولا ينتصب عن {أُخِذُواْ} لأن ما بعد حروف الشرط لا يعمل فيما قبلها {أَيْنَمَا ثُقِفُواْ} وجدوا {أُخِذُواْ وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً} والتشديد يدل على التكثير {سُنَّةَ الله} في موضع مصدر مؤكد أي سن الله في الذين ينافقون الأنبياء أن يقتلوا أينما وجدوا {فِى الذين خَلَوْاْ} مضوا {مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً} أي لا يبدل الله سنته بل يجريها مجرى واحداً في الأمم.
{يَسْئَلُكَ الناس عَنِ الساعة} كان المشركون يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت قيام الساعة استعجالاً على سبيل الهزء، واليهود يسألونه امتحاناً لأن الله تعالى عمى وقتها في التوراة وفي كل كتاب، فأمر رسوله بأن يجيبهم بأنه علم قد استأثر الله به، ثم بين لرسوله أنها قريبة الوقوع تهديداً للمستعجلين وإسكاناً للممتحنين بقوله {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيباً} شيئاً قريباً أو لأن الساعة في معنى الزمان {إِنَّ الله لَعَنَ الكافرين وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً} ناراً شديدة الاتقاد {خالدين فِيهَا أَبَداً} هذا يرد مذهب الجهمية لأنهم يزعمون أن الجنة والنار تفنيان. ولا وقف على {سَعِيراً} لأن قوله {خالدين فِيهَا} حال عن الضمير في {لَهُمْ}. {لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} ناصراً يمنعهم. اذكر {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ في النار} تصرّف في الجهات كما ترى البضعة تدور في القدر إذا غلت، وخصصت الوجوه لأن الوجه أكرم موضع على الإنسان من جسده أو يكون الوجه عبارة عن الجملة {يَقُولُونَ} حال {ياليتنا أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرسولا} فنتخلص من هذا العذاب فتمنوا حين لا ينفعهم التمني {وَقَالُواْ رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا} جمع سيد. {ساداتنا} شامي وسهل ويعقوب جمع الجمع، والمراد رؤساء الكفرة الذين لقنوهم الكفر وزينوه لهم {وَكُبَرَاءنَا} ذوي الأسنان منا أو علماءنا {فَأَضَلُّونَا السبيلا} يقال: ضل السبيل وأضله إياه، وزيادة الألف لإطلاق الصوت جعلت فواصل الآي كقوافي الشعر، وفائدتها الوقف والدلالة على أن الكلام قد انقطع وأن ما بعده مستأنف {رَبَّنَا ءاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب} للضلال والإضلال {والعنهم لَعْناً كَبِيراً} بالباء عاصم ليدل على أشد اللعن وأعظمه، وغيره بالثاء تكثيراً لأعداد اللعائن.
ونزل في شأن زيد وزينب وما سمع فيه من قاله بعض الناس {ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين ءاذَوْاْ موسى فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُواْ} (ما) مصدرية أو موصولة، وأيهما كان فالمراد البراءة عن مضمون القول ومؤاده وهو الأمر المعيب.
وأذى موسى عليه السلام هو حديث المومسة التي أرادها قارون على قذفه بنفسها أواتهامهم إياه بقتل هرون فأحياه الله تعالى فأخبرهم ببراءة موسى عليه السلام كما برأ نبينا عليه السلام بقوله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ} {وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهاً} ذا جاه ومنزلة مستجاب الدعوة. وقرأ ابن مسعود والأعمش {وَكَانَ عَبْداً للَّهِ وَجِيهاً}.
{ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} صدقاً وصواباً أو قاصداً إلى الحق. والسداد: القصد إلى الحق والقول بالعدل والمراد نهيهم عما خاضوا فيه من حديث زينب من غير قصد وعدل في القول والبعث على أن يسددوا قولهم في كل باب، لأن حفظ اللسان وسداد القول رأس كل خير. ولا تقف على {سَدِيداً} لأن جواب الأمر قوله {يُصْلِحْ لَكُمْ أعمالكم} يقبل طاعتكم أو يوفقكم لصالح العمل {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} أي يمحها. والمعنى راقبوا الله في حفظ ألسنتكم وتسديد قولكم فإنكم إن فعلتم ذلك أعطاكم ما هو غاية الطلبة من تقبل حسناتكم والإثابة عليها ومن مغفرة سيئاتكم وتكفيرها. وهذه الآية مقررة للتي قبلها بنيت تلك على النهي عما يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه على الأمر باتقاء الله في حفظ اللسان ليترادف عليهم النهي والأمر مع اتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه السلام وإتباع الأمر الوعد البليغ فيقوي الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه. ولما علق بالطاعة الفوز العظيم بقوله {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} أتبعه قوله.
{إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال} وهو يريد بالأمانة الطاعة لله وبحمل الأمانة الخيانة. يقال: فلان حامل للأمانة ومحتمل لها أي يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته، إذ الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها وهو حاملها ولهذا يقال: ركبته الديون ولي عليه حق، فإذا أداها لم تبق راكبة له ولا هو حامل لها يعني أن هذا الأجرام العظام من السماوات والأرض والجبال قد انقادت لأمر الله انقياد مثلها وهو ما يأتي من الجمادات، وأطاعت له الطاعة التي تليق بها حيث لم تمتنع على مشيئته وإرادته إيجاداً وتكويناً وتسوية على هيئات مختلفة وأشكال متنوعة كما قال: {ثُمَّ استوى إِلَى السماء وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11]. وأخبر أن الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب يسجدون لله وإن من الحجارة لما يهبط من خشية الله، وأما الإنسان فلم تكن حاله فيما يصح منه من الطاعة ويليق به من الانقياد لأوامر الله ونواهيه وهو حيوان عاقل صالح للتكليف مثل حال تلك الجمادات فيما يصح منها ويليق بها من الانقياد وعدم الامتناع، وهذا معنى قوله {فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا} أي أبين الخيانة فيها وأن لا يؤدينها {وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} وخفن من الخيانة فيها {وَحَمَلَهَا الإنسان} أي خان فيها وأبى أن لا يؤديها {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً} لكونه تاركاً لأداء الأمانة {جَهُولاً} لإخطائه ما يساعده مع تمكنه منه وهو أداؤها.
قال الزجاج: الكافر والمنافق حملا الأمانة أي خانا ولم يطيعا. ومن أطاع من الأنبياء والمؤمنين فلا يقال كان ظلوماً جهولاً. وقيل: معنى الآية أن ما كلفه الإنسان بلغ من عظمه أنه عرض على أعظم ما خلق الله من الأجرام وأقواه فأبى حمله وأشفق منه وحمله الإنسان على ضعفه {إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} حيث حمل الأمانة ثم لم يف بها وضمنها ثم خاس بضمانه فيها، ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب، وما جاء القرآن إلا على أساليبهم من ذلك قولهم (لو قيل للشحم أين تذهب لقال أسوي العوج).
واللام في {لّيُعَذّبَ الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات} للتعليل لأن التعذيب هنا نظير التأديب في قولك (ضربته للتأديب) فلا تقف على {جَهُولاً} {وَيَتُوبَ الله عَلَى المؤمنين والمؤمنات} وقرأ الأعمش {وَيَتُوبُ الله} بالرفع ليجعل العلة قاصرة على فعل الحامل ويبتديء {وَيَتُوبَ الله} ومعنى المشهورة ليعذب الله حامل الأمانة ويتوب على غيره ممن لم يحملها لأنه إذا تيب على الوافي كان نوعاً من عذاب الغادر، أو للعاقبة أي حملها الإنسان فآل الآمر إلى تعذيب الأشقياء وقبول توبة السعداء {وَكَانَ الله غَفُوراً} للتائبين {رَّحِيماً} بعباده المؤمنين والله الموفق للصواب.

.سورة سبأ:

مكية وهي أربع وخمسون آية.

.تفسير الآيات (1- 8):

{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8)}
{الحمد} إن أجرى على المعهود فهو بما حمد به نفسه محمود، وإن أجرى على الاستغراق فله لكل المحامد الاستحقاق {لِلَّهِ} بلام التمليك لأنه خالق ناطق الحمد أصلاً فكان بملكه مالك الحمد للتحميد أهلاً {الذى لَهُ مَا في السماوات وَمَا في الأرض} خلقاً وملكاً وقهراً فكان حقيقاً بأن يحمد سراً وجهراً {وَلَهُ الحمد في الآخرة} كما هو له في الدنيا إذ النعم في الدارين من المولى، غير أن الحمد هنا واجب لأن الدنيا دار تكليف وثم لا، لعدم التكليف وإنما يحمد أهل الجنة سروراً بالنعيم وتلذذاً بما نالوا من الأجر العظيم بقولهم {الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر: 74] {الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن} [فاطر: 34] {وَهُوَ الحكيم} بتدبير ما في السماء والأرض {الخبير} بضمير من يحمده ليوم الجزاء والعرض {يَعْلَمْ} مستأنف {مَا يَلْجُ} ما يدخل {فِى الأرض} من الأموات والدفائن {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} من النبات وجواهر المعادن {وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء} من الأمطار وأنواع البركات {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} يصعد إليها من الملائكة والدعوات {وَهُوَ الرحيم} بإنزال ما يحتاجون إليه {الغفور} لما يجترئون عليه.
{وَقَالَ الذين كَفَرُواْ} أي منكرو البعث {لاَ تَأْتِينَا الساعة} نفي للبعث وإنكار لمجيء الساعة {قُلْ بلى} أوجب ما بعد النفي ب {بلى} على معنى أن ليس الأمر إلا إتيانها {وَرَبّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ} ثم أعيد إيجابه مؤكداً بما هو الغاية في التوكيد والتشديد وهو التوكيد باليمين بالله عز وجل، ثم أمد التوكيد القسمى بما اتبع المقسم به من الوصف بقوله {عالم الغيب} لأن عظمة حال المقسم به تؤذن بقوة حال المقسم عليه وبشدة ثباته واستقامته لأنه بمنزلة الاستشهاد على الأمر، وكلما كان المستشهد به أرفع منزلة كانت الشهادة أقوى وآكد والمستشهد عليه أثبت وأرسخ، ولما كان قيام الساعة من مشاهير الغيوب وأدخلها في الخفية كان الوصف بما يرجع إلى علم الغيب أولى وأحق. {عالم الغيب} مدني وشامي أي هو عالم الغيب {علامِ الغيب} حمزة وعلي على المبالغة {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ} وبكسر الزاي: عليّ. يقال: عزب يعزب ويعزب إذا غاب وبعد {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} مقدار أصغر نملة {فِى السماوات وَلاَ في الأرض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ} من مثقال ذرة {وَلا أَكْبَرُ} من مثقال ذرة {إِلاَّ في كتاب مُّبِينٍ} إلا في اللوح المحفوظ، {وَلاَ أَصْغَرُ وَلا أَكْبَرُ} بالرفع عطف على {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} ويكون {إلا} بمعنى لكن، أو رفعاً بالابتداء والخبر {فِى كتاب} واللام في {لّيَجْزِىَ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ} لما قصروا فيه من مدارج الإيمان {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} لما صبروا عليه من مناهج الإحسان متعلق ب {لَتَأْتِيَنَّكُمْ} تعليلاً له.
{والذين سَعَوْا في ءاياتنا} جاهدوا في رد القرآن {معاجزين} مسابقين ظانين أنهم يفوتوننا. {مُعَجِزِينَ} مكي وأبو عمرو أي مثبطين الناس عن اتباعها وتأملها أو ناسبين الله إلى العجز {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مّن رّجْزٍ أَلِيمٌ} برفع {أَلِيمٌ} مكي وحفص ويعقوب صفة لعذاب أي عذاب أليم من سيء العذاب. قال قتادة: الرجز سوء العذاب، وغيرهم بالجر صفة لرجز.
{وَيَرَى} في موضع الرفع بالاستئناف أي ويعلم {الذين أُوتُواْ العلم} يعني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يطأ أعقابهم من أمته أو علماء أهل الكتاب الذين أسلموا كعبد الله بن سلام وأصحابه، والمفعول الأول ل {يرى} {الذى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ} يعني القرآن {هُوَ الحق} أي الصدق وهو فصل و{الحق} مفعول ثانٍ أو في موضع النصب معطوف على {لِيَجْزِىَ} وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق علماً لا يزاد عليه في الإيقان {وَيَهْدِى} الله أو الذي أنزل إليك {إلى صِرَاطِ العزيز الحميد} وهو دين الله {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ} وقال قريش بعضهم لبعض {هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ} يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم. وإنما نكّروه مع أنه كان مشهوراً علماً في قريش وكان إنباؤه بالبعث شائعاً عندهم تجاهلاً به وبأمره وباب التجاهل في البلاغة وإلى سحرها {يُنَبّئُكُمْ إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي يحدثكم بأعجوبة من الأعاجيب أنكم تبعثون وتنشئون خلقاً جديداً بعد أن تكونوا رفاتاً وتراباً ويمزق أجسادكم البلى كل ممزق أي يفرقكم كل تفريق، فالممزق مصدر بمعنى التمزيق، والعامل في {إِذَا} ما دل عليه {إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي تبعثون، والجديد فعيل بمعنى فاعل عند البصريين تقول جد فهو جديد كقل فهو قليل ولا يجوز {إِنَّكُمْ} بالفتح للام في خبره {افترى عَلَى الله كَذِبًا} أهو مفترٍ على الله كذباً فيما ينسب إليه من ذلك والهمزة للاستفهام وهمزة الوصل حذفت استغناء عنها {أَم بِهِ جِنَّةٌ} جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه {بَلِ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة في العذاب والضلال البعيد} ثم قال سبحانه وتعالى: ليس محمد من الافتراء والجنون في شيء وهو مبرأ منهما بل هؤلاء القائلون الكافرون بالبعث واقعون في عذاب النار وفيما يؤديهم إليه من الضلال عن الحق وهم غافلون عن ذلك. وذلك أجن الجنون، جعل وقوعهم في العذاب رسيلاً لوقوعهم في الضلال كأنهما كائنان في وقت واحد، لأن الضلال لما كان العذاب من لوازمه جعلا كأنهما مقترنان. ووصف الضلال بالبعيد من الإسناد المجازي لأن البعيد من الإسناد المجازي لأن البعيد صفة الضال إذا بعد عن الجادة.